تعود لحقب تاريخية متعددة منها البونية والرومانية والبيزنطية والإسلامية.. ميراث الآثار الغارقة بتونس

تعتبر المحيطات والبحار أكبر متحف على وجه البسيطة إذ تقف شاهدا صامتا وفريدا من نوعه على تاريخ الحضارات القديمة وما جادت به قريحة الإنسان.

يعتبر اكتشاف « سفينة المهدية » سنة 1907 -من طرف صائدي الإسفنج على مسافة 4 كيلومترات من سواحل مدينة المهدية التونسية وفي عمق 41 مترا- نقطة انطلاق الاهتمام بالآثار المغمورة بالمياه في تونس والتي جذبت إليها البحّار والمستكشف الفرنسي جون ايف كوستو في أواخر أربعينيات القرن الماضي الذي قام بالغوص واستكشاف السفينة، وأنجز شريطا وثائقيا حول هذا الموقع الأثري الأول في تونس.

وتونس -التي تعاقبت عليها العديد من حضارات تعود إلى 10 آلاف سنة قبل الميلاد (الحضارة القبصية) والتي تمتلك شريطا ساحليا يمتد على مسافة 1300 كيلومتر- تعتبر واحدة من أهم البلدان التي تمتلك رصيدا تاريخيا مغمورا بالمياه والذي ما انفك يبوح ببعض أسراره من يوم إلى آخر مع تقدّم الأبحاث وتعدد الاكتشافات لهذا المخزون التاريخي الإنساني؛ نظرا للاهتمام المتزايد بهذا الميدان.

وتعرّف اتفاقية اليونسكو لسنة 2001 التراث المغمور بالمياه على أنه جميع آثار الوجود الإنساني التي تتسم بطابع ثقافي أو تاريخي أو أثري، والتي ظلّت مغمورة بالمياه -جزئيا أو كليا- بصورة دورية ومتواصلة لمدّة 100 عام على الأقل؛ مثل الهياكل والمواقع والمباني والمصنوعات والرفات البشرية مع سياقها الأثري والطبيعي والسفن والطائرات وغيرها من وسائل النقل أو أي جزء من محتوياتها أو من حمولتها مع سياقها الأثري والطبيعي والأشياء التي تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ.

الاكتشافات التونسية

توصّل فريق من المعهد الوطني للتراث في تونس أواخر 2020 إلى اكتشاف عدد من المواقع الأثرية المغمورة بالمياه في ضواحي العاصمة، وهو اكتشاف يعتبر من الأهمية بمكان؛ نظرا لتنوّع القطع التي عثر عليها والتي ضمت مراسي حجرية ومعدنية للسفن، وسبائك من الرصاص وأواني وجرار من الخزف والفخار، إضافة إلى تنوع الحقبات التاريخية التي تراكمت في الموقع والممتدة من عصور ما قبل التاريخ إلى الفترة الحديثة والمعاصرة.

تقول وفاء بن سليمان -المكلفة بالبحوث في قسم الآثار المغمورة بالمياه في المعهد الوطني للتراث بتونس- إن هذه الاكتشافات مكنت من قراءة أولية لتاريخ وتطور صناعة السفن والتقنيات البحرية عبر الحضارات عن طريق التراكم الأثري الذي استطاع المعهد التوصّل إليه، وهو الأمر الذي سيتيح للباحثين والمؤرخين في تونس والعالم معلومات إضافية أكثر تفصيلا ودقة تهم العديد من الحضارات والفترات التاريخية.

وتضيف -للجزيرة نت- أن تونس تمتلك مخزونا أثريا تاريخيا مغمورا بالمياه ومتنوعا وثريا من بقايا حطام السفن والمدن والموانئ والحصون الساحلية القديمة التي تعود إلى الفترة البونية والرومانية والإسلامية، وأن السنوات الأخيرة شهدت العديد من الأبحاث العلمية وانطلاق جرد وطني لبقايا حطام السفن على مختلف الفترات التاريخية إضافة إلى قائمة للمواقع الأثرية الساحلية، وهو ما يتطلب إمكانيات مالية وتقنية وعلمية كبيرة.

وتتميز المكتشفات -التي وقع التوصّل إليها مؤخرا- بالتنوع والثراء؛ حيث تعود إلى حقبات تاريخية متعددة ومختلفة منها البونية والرومانية والبيزنطية والإسلامية والعثمانية. وهذه المكتشفات القيمة من الناحية العلمية كانت بنسبة 80% في حالة حفظ جيدة، مما مكّن من دراستها والتعامل معها بسهولة.

وفي هذا الصدد تقول وفاء بن سليمان أن هذه النوعية من الاكتشافات مكنت أيضا من توفير صورة أكثر وضوحا عن تاريخ المسالك التجارية البحرية عبر التاريخ، وتحديد موقع تونس في هذه المنظومة القديمة؛ وخاصة في حوض المتوسط الذي يجمع دوله إرث ثقافي موحّد، حسب تعبيرها، إضافة إلى تقنيات الملاحة والتي لا يمكن الوصول إليها ودراستها إلا عن طريق البحث عن الآثار التحت بحرية.

البحث والحماية

وعند العثور على موقع أثري مغمور بالمياه يقوم باحثو الآثار والغواصون المختصون بالتوثيق الأثري المتمثل في الجرد ووصف الاكتشاف وأخذ المقاييس والقيام برفوعات هندسية وطبوغرافية خاصة للقطع التي لن يتم استخراجها اعتمادا على استمارة دقيقة، أما بالنسبة للقطع التي تدهورت حالتها ولم بعد بالإمكان استخراجها فهي تخضع لرفوعات فوتوغرامترية لتوثيق رقمي لما بقي منها في الأرشيف.

وتؤكّد الباحثة التونسية أن السلطات التونسية تقوم بمسوحات ومعاينات ميدانية قبل إطلاق المشاريع والبناءات التي تمتد إلى السواحل والشواطئ التونسية من أجل حماية ووقاية الآثار المغمورة بالمياه، إضافة إلى إعداد وإنجاز مشاريع لحماية الشريط الساحلي من الانجرافات البحرية التي يمكنها إتلاف الآثار المغمورة جزئيا.

 


 

ويقع استخراج القطع الأثرية المغمورة بالمياه في حالة وجودها في أعماق قصيرة، وهو ما يجعلها مهددة بالتلف أو عرضة للفقدان نظرا لسهولة التوصّل إليها للنهب، أما القطع التي توجد في أعماق كبيرة فإنه يوضع عليها علامات استدلال، ويتم إدراجها ضمن دورات تفقدية تقوم بها فرق المعهد بمعية الحرس البحري التونسي لحمايتها من التهديدات التي تتعرض لها الآثار المغمورة بالمياه، كالنهب والاستغلال التجاري والغوص غير المسؤول الذي لا يحترم القوانين ويعرض هذه الكنوز التاريخية لخطر التلف. إضافة إلى التوسع العمراني الذي تشهده المدن الساحلية نظرا لتطور النمو السكاني بها، ويضاف إلى ذلك تأثيرات العوامل الطبيعية مثل الانجراف البحري وارتفاع مستوى البحر.

المصدر : الجزيرة